حكاية قرية شريفة جداً "لعنة حريش " بقلم:سليم عوض عيشان( علاونه )

كبر الخط - صغر الخط - الإفتراضي

من المجموعة القصصية
حكاية قرية شريفة جداً
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونه )
الحكاية الأولى
" لعنة حريش "
القادم إلى قريتي الصغيرة من الناحية الغربية
- حيث الطريق العام - يسير في الطريق الضيق الذي
لا يكاد يتسع لسيارة واحدة ، حيث يخترق هذا الطريق الضيق كروم الزيتون الروماني القديم ، فترى جذوعها وقد تشققت بحيث يستطيع المرء الولوج إلى جوف جذع الزيتونة منها بسهولة ويسر0
لا تلبث أن تطل منازل القرية عن بعد ، فيطمئن المرء إلى وجود بشر في هذه المنطقة وقد حسب أنها نهاية العالم ؟
إلى اليسار ، تجد مدرسة القرية الوحيدة ، وهي مدرسة إبتدائية ... وإلى اليمين تتناثر القبور المتباينة بشكل عشوائي في مقبرة القرية التي خصص جزء كبير منها لإلقاء القمامة والقاذورات وروث البهائم ؟؟ فكأن الحياة والموت اجتمعا جنباً إلى جنب متمثلين في المدرسة والمقبرة0
منازل القرية بسيطة متواضعة.. معظمها " خشش " و" وبراكيات " قديمة أثرية ... فكنت أضطر إلى الإنحناء كثيراً عند الدخول إلى إحداها فأجلس على الأرض على حصير مهلهل ، رص فوقه شئ مما يشبه الفراش ..
فأحس بالرطوبة المزمنة تزكم أنفي.. أنظر إلى السقف المكون من الخشب والطين والحجارة ... فأضرع إلى الله تعالى أن يمنع تساقط هذه الأشياء حتى أنتهي من الزيارة القصيرة0
ولا ألبث أن أعود بناظريّ إلى الأخشاب والشقوق.. متوقعاً رؤية رأس ثعبان " ذي قرون " يطل عليّ متوعداً مهدداً .. فلا أتنبه للحديث الذي يدور من حولي بقدر متابعتي لهذه الأمور0
في نهاية القرية من الناحية الشرقية .. جبل ضخم يطلّ على القرية بشموخ ورهبة ، وكأنه حارس أمين للقرية أو كأنه السجان الذي يحرسها حتى لا تفر من سلطانه ؟؟؟0
تقول الروايات القديمة والأساطير ... بأن على قمة هذا الجبل " مزاراً " وقبراً لوليّ يسمى " حريش " فسميّ
هذا الجبل باسمه ؟؟؟ ولست أدري لماذا لم تسم القرية باسمه أيضاً ؟؟؟
أساطير القرية وعجائزها تقول أن " حريش " هذا ، كان راهباً متعبداً .. أو هو ولياً منذراً ..أو داعية مبشراً ؟؟ عبث أهل القرية به ، وهزأوا من رسالته ، وسخروا من دعوته ، اضطهدوه .. ضايقوه.. عذبوه ..
وقبل أن يطردوه من القرية ، أو لعلهم قد فعلوا ذلك ،
قرر الرحيل عن القرية إلى الجبل الشاهق المطل عليها ، وانتقاماً من القرية .. قرر أن يقيم معبده ومزاره.. بحيث يطل على جميع القرى المحيطة به .. القريبة والبعيدة ، ما عدا قريتي .. والغريب حقاً أنك تستطيع مشاهدة المعبد أو المزار من جميع القرى القريبة والبعيدة .. ما عدا قريتي؟؟؟0
ويبدو أن " حريش " قرر أن يضيف انتقاماً آخر من القرية ! فقد تملكه الغضب الشديد لما فعل أهل القرية به ، ودعا ربه أن يهتك ستر بنات القرية ... وأن تكون في كل سنة فضيحة لفتاة من فتيات القرية ! ولست أدري كيف يصل الغضب بالرهبان أو الأولياء إلى مثل هذه الدرجة بالدعاء بالفضيحة ، وهتك الستر ؟؟!! ولكن - أظن أن شيئاً من هذا قد كان - .
" جميلة " فتاة من فتيات القرية ، جميلة حقاً ، ذكية، أكملت تعليمها حتى نهاية المرحلة الإبتدائية كمعظم فتيات القرية ، لم يلبث أن تقدم لخطبتها أحد شباب القرية الأغنياء، وسرعان ما تمت الموافقة من ذويها ، وخاصة والدها الذي كان يعمل مزارعاً في كروم ومزارع والد خطيبها0
سعدت الفتاة المراهقة بالأمر أيما سعادة .. فها هو حلم حياتها يتحقق .. فخطيبها شاب .. ثريّ .. جميل الطلعة ... حتى أن المرء يحسبه فتاة لجماله وتأنقه ، عائلته من أعرق العائلات وأبرزها في القرية والقرى المحيطة ومن أكثرها نفوذاً وثراءً 0
في القرية ، عادةً .. لا تقول الفتاة .. " لا " ... وفي العادة أيضاً فإن فترة الخطوبة لا تطول لأكثر من شهر أو شهرين ، ولكن الحال إختلف قليلاً في أمر خطبة "جميلة"0
فلقد طال وقت الخطبة كثيراً .. الشهور تتوالى وتنقضي بالتدريج ، وبالتدريج أيضاً كانت سعادة " جميلة " تنقلب إلى شقاء ، وابتسامتها المشرقة العذبة إلى عبوس وتجهم ، ولم يدرك أحد سر هذا التغير المفاجئ أو يعرف سببه !
قررت " جميلة " الإنزواء في المنزل ، ولم تعد تفارقه أو تختلط بأحد على الإطلاق ، أقلت من الحديث ، فقدت شهيتها للطعام والشراب ، عرضوها على الأطباء فاستعصى عليهم الأمر ... لجأوا إلى الشعوذة والسحر فازدادت الأمور تعقيداً .. وازدادت صحتها تدهوراً0
وراح أهل القرية يخمنون ، إلى أن توصلوا بفكرهم العقيم إلى ما ظنوا أنه السر . "جميلة " ليست عذراء " جميلة " ، ليست عذراء ؟؟ هذا ما تناقلته الألسن ... وما أشيع في القرية بأسرها .. وإلا .. فلماذا قررت الإنفصال عن خطيبها فجأة؟؟ ولماذا رفضت الزواج منه؟؟ ولماذا لم تأت بسبب واحد مقنع للإنفصال؟ لماذا تصمت ؟ ولماذا ؟؟؟.
ووصلوا بظنهم إلى أبعد من ذلك بكثير ، هداهم تفكيرهم الشيطاني وصور لهم أن "جميلة " ليست عذراء ، وأن الذي أفقدها عذريتها هو ، خطيبها ؟ وتركها بعد ذلك ؟ وقالوا بأنه دفع لها نقوداً كثيرة ثمناً لذلك؟
كانت هذه العبارات الكريهة تتردد في القرية … فتنتقل إلى مسامع أهل البيت .. والى أذنيّ " جميلة " فتزداد كمداً وغماً وانطواءً … فنحل عودها ، وذوي جمالها ،
واضطرب عقلها .. وتشتت فكرها .. وانتشر الأمر في القرية .. والقرى المجاورة .. فاجتمع شباب القرية ورجالها .. وراحوا يتشاورون في الأمر؟؟؟
قررت الأم المسكينة أن تبادر إلى إنقاد شرف ابنتها "جميلة " ... أن تفعل شيئاً من أجل اظهار براءة ابنتها .. خاصة وأن الأمر قد وصل إلى حد اتهام "جميلة" بأكثر مما يحتمل ، فلقد أشيع بين أهل القرية بأن "جميلة" حامل؟0
أسرعت الأم بارتداء ملابسها .. ترفقت بإنهاض
ابنتها " جميلة " .. وقد عزمت في نفسها أمراً قررت تنفيذه دون تأخير0
منزل " أم محمود " القابلة القانونية ، كان في أقصى الطرف الغربي للقرية ... سارت الأم وابنتها طويلاً قبل أن تصلا المنزل ، وقعت جميلة على الأرض عدة مرات في الطريق ... فكانت الأم تسارع إلى مساعدتها على النهوض والإستمرار .. عيون أهل القرية من الفضوليين تحدق فيهما من كل صوب وكأنها شواظ جهنم ، وسرعان ما كانت إشاعة جديدة تنتشر في القرية ( " جميلة " ذهبت إلى " أم محمود " لإجراء عملية سريعة للإجهاض ؟) .
ما هي سوى نصف ساعة أو أقل قليلاً ... حتى كانت الأم تخرج من بيت " أم محمود " منفرجة الأسارير .. متهللة الوجه ... منشرحة الصدر ، تحمل بيدها ورقة ... وكأنها تحمل " صك الغفران " .. وباليد الأخرى كانت تسند "جميلة" وتساعدها على السير0
لوحت الأم بالورقة في الوجوه الكالحة لأهل القرية الشريفة ... رفعت عقيرتها بالنداء ... زغردت ... دوي صوتها في السماء ... رددته الجبال إلى أن وصل إلى مسامع " حريش "
" ...إبنتي عذراء ... " جميلة " عذراء ... عذراء ... وهذه شهادة تثبت ذلك ... " جميلة " عذراء يا رجال القرية .. يا نساء القرية .. عذراء "
آلاف من أهل القرية أقبلوا نحوهما .. وجوه جامدة .. كجبل " حريش " .. تجهم رهيب كمزاره .. صرخت الأم :-
- انظري يا "جميلة " .. لقد أتى أهل القرية جميعاً للتهنئة ... إنهم أناس طيبون .. لقد تأكدوا من براءتك ... لقد تأكدوا من عذريتك ...
.. يا أهل القرية .. " جميلة " عذراء .. عذراء.. عذراء...
لم يلبث أن إنقض على " جميلة " عشرة من الرجال الأشداء... والقوم من ورائهم يهتفون .. يهللون .. يكبرون .. والنسوة تزغردن ؟؟؟
ظنت الفتاة بأنهم سيحملونها على الأكتاف ... على الأعناق .. ظنت بأنهم سيهتفون لها .. يحيونها ... وفعلوا ذلك فعلاً .. ولكن بطريقة أخرى0
قذفوا بها فى الهواء ، فتلقفتها أحجار المقابر الصدئة .. هوت على وجهها مليون قدم تدوسه بعنف .. تمرغه في التراب .. وامتدت إلى الجسد مليون يد تمزقه بغيظ0
صرخت الأم بمرارة :-
- إنها عذراء .. بريئة .. عذراء...
ويبدو بأن الصمم قد أصاب القوم .. إنهم يعرفون شيئاً واحداً فقط .. يعرفون أن " جميلة " خاطئة .. لقد ذهبت إلى " أم محمود " للإجهاض .. لكي تسقط الشيطان من أحشائها .. لتتخلص من الجريمة النكراء .. والفعلة الشنعاء.
من وسط الجموع الحاشدة .. إندفع شاب .. يصرخ... ينادي ... إنه خطيب "جميلة " ... يدفع بالقوم هنا وهناك .. يقترب من "جميلة " ... يدافع عنها .. يبعد الخطر ويحميها من الموت .. ومن وسط الجلبة والضوضاء كان صوته مجلجلاً مدوياً:
- يا أهل القرية .. إسمعوني .. إسمعوني جيداً ... "جميلة" عذراء .. عذراء .. أنا لم أمسها ... لم أمسها مطلقاً...
زمجرت الأصوات الكريهة من حوله :
- .. " لا " ... إنه كاذب ... " جميلة " ليست عذراء ... وهو يعلم ذلك جيداً .. لأنه من أفقدها عذريتها!
صرخ الشاب من الأعماق :
- .. كذب .. كذب .. ان ما تدعون كذب وافتراء .. إنها عذراء .. عذراء .. أقسم لكم بأنها أشرف منكم جميعاً .. إنها من أشرف الناس .. إنها أشرف من " حريش " صاحبكم .. إنها عذراء ... عذراء .. لقد حافظت على السر ودفعت حياتها ثمناً له .. إنها قديسة .. إنها ملاك طاهر .. لقد عرفت سري وحافظت عليه .. سأبوح لكم بالسر يا أهل القرية ... يا أهل القرية الشريفة .. إنني ... إنني نصف رجل ..
نصف امرأة ؟؟؟
ضحك القوم لأول مرة .. فكانت كضحكات الشياطين الحمراء .. ترقص حول الجسد المسجي على الأرض ..
ولم يصدقه القوم0
... فجأة .. إستبدت بالقوم الدهشة .. وحبسوا أنفاسهم لهول المفاجأة .. خطيب " جميلة " يخلع ملابسه بسرعة رهيبة؟؟ وشهق القوم وعيونهم جاحظة كعيون الشياطين:
" يا للهول !! يا للمفاجأة!! لم يعد يستر جسد الشاب شئ!!
ما هذا ؟ حقاً يا له من أمر غريب ! إنه ليس رجلاً !
إستدار الشاب في كل اتجاه … وهو عارٍ تماماً صرخ في القوم بحدة وألم :
- أُنظروا يا أهل القرية .. أُنظروا .. هل أنا رجل ؟؟؟ هل صدقتم الآن بأن " جميلة عذراء ؟؟ هل صدقتم بأنني لست رجلاً ؟؟؟
إستدار القوم يغادرون المكان .. مطأطئي الرؤوس0
... ولم يبق بين القبور سوى شاب .. هو نصف رجل .. ونصف امرأة .. يصرخ بشكل هستيري ، يرقص عارياً رقصة الجنون حول الجسد المسجي على الأرض ... الجسد الذي لا تستره سوى ورقة .. ورقة كبيرة بحجم الجسد ..
خط عليها .. وبالبنط العريض أن:
جميلة ما زالت عــذراء ؟؟